فصل: ذكر استيلاء نصر بن أحمد على كَرْمان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر سبب تقدُّم عليّ بن بويه:

كان السبب في ارتفاع عليّ بن بويه من بينهم، بعد الأقدار، أنّه كان سَمحاً، حليماً، شجاعاً، فلمّا قلّده مرداويج كَرَج، وقلّد جماعة القوّاد المستأمنة معه الأعمال، وكتب لهم العهود، ساروا إلى الريّ، وبها وشمكير بن زيار أخو مرداويج، ومعه الحسين بن محمّد الملقّب بالعميد، وهو والد أبي الفضل الذي وزر لركن الدولة بن بويه، وكان العميد يومئذ وزير مرداويج.
وكان مع عماد الدولة بغلة شهباء من أحسن ما يكون، فعرضها للبيع، فبلغ ثمنها مائتَيْ دينار، فعُرضت على العميد فأخذها وأنفذ ثمنها، فلمّا حمل الثمن إلى عماد الدولة أخذ منه عشرة دنانير وردّ الباقي، وجعل معه هدية جميلة.
ثم أنّ مرداويج ندم على ما فعل من تولية أولئك القوّاد البلاد، فكتب إلى أخيه وشمكر وإلى العميد يأمرهما بمنعهم من المسير إلى أعمالهم، وأن كان بعضهم قد خرج فيردّ.
وكانت الكتب تصل إلى العميد قبل وشمكير، فيقراها ثمّ يعرضها على وشمكير، فلمّا وقف العميد على هذا الكتاب أنفذَ إلى عماد الدولة يأمره بالمسير من ساعته إلى عمله، ويطوي المنازل، فسار من وقته، وكان المغرب، وأمّا العميد فلمّا أصبح عرض الكتاب على وشمكير، فمنع سائر القوّاد من الخروج من الريّ، واستعاد التوقيعات التي معهم بالبلاد، وأراد وشمكير أن يُنفذ خلف عماد الدولة من يردّه، فقال العميد: إنّه لا يرجع طوعاً، وربّما قاتل من يقصده وخرج عن طاعتنا؛ فتركه.
وسار عماد الدولة إلى كَرَج، وأحسن إلى الناس، ولطف بعمّال البلاد، فكتبوا إلى مرداويج يشكرونه، ويصفون ضبطه البلد، وسياسته، وافتتح قِلاعاً كانت للخُرّميّة، وظفر منها بذخائر كثيرة صرفها جميعها إلى استمالة الرجال، والصلات، والهبات، فشاع ذكره، وقصده الناس وأحبّوه.
وكان مرداويج ذلك الوقت بَطَبرِستان، فلمّا عاد إلى الريّ أطلق مالاً لجماعة من قوّاده على كَرَج، فاستمالهم عماد الدولة، ووصلهم، وأحسن إليهم، حتّى مالوا إليه، وأحبّوا طاعته.
وبلغ ذلك مرداويج، فاستوحش وندم على إنفاذ أولئك القوّاد إلى الكرج، فكتب إلى عماد الدولة وأولئك يستدعيهم إليه، وتلطّف بهم، فدافعه عماد الدولة، واشتغل بأخذ العهود عليهم، وخوّفهم من سطوة مرداويج، فأجابوه جميعهم، فجبى مال كرَج، واستأمن إليه شيرزاد، وهو من أعيان قوّاد الدَّيلم، فقويت نفسه بذلك، وسار بهم عن كرج إلى أصبهان، وبها المظفَّر ابن ياقوت، في نحو من عشرة آلاف مقاتل، وعلى خراجها أبو عليّ بن رستم، فأرسل عماد الدولة إليهما يستعطفهما، ويستأذنهما في الانحياز إليهما، والدخول في طاعة الخليفة، ليمضي إلى الحضرة ببغداد، فلم يجيباه إلى ذلك، وكان أبو عليّ أشدّهما كراهة، فاتّفق للسعادة أنّ أبا عليّ مات في تلك الأيّام، وبرز ابن ياقوت عن أصبهان ثلاثة فراسخ، وكان في أصحابه جيل وديلم مقدار ستمائة رجل، فاستأمنوا إلى عماد الدولة لما بلغهم من كرمه، فضعف قلب ابن ياقوت، وقوي جنان عماد الدولة، فواقعه، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم ابن ياقوت، واستولى عماد الدولة على أصبهان، وعظم في عيون الناس لأنّه كان في تسعمائة رجل هزم بهم ما يقارب عشرة آلاف رجل، وبلغ ذلك الخليفة فاستعظمه، وبلغ خبر هذه الوقعة مرداويج فأقلقه، وخاف على ما بيده من البلاد واغتم لذلك غمّاً شديداً.

.ذكر استيلاء ابن بُوَيْه على أرّجان وغيرها وملك مرداويج أصبهان:

لّما سار الرسول جهّز مرداويج أخاه وشمكير في جيش كثيف ليكبس ابن بويه، وهو مطمئن إلى الرسالة التي تقدّمت، فعلم ابن بويه بذلك، فرحل عن أصبهان بعد أن جباها شهرَيْن، توجّه إلى أرّجان، وبها أبو بكر بن ياقوت، فانهزم أبو بكر من غير قتال، وقصد رامهرمُز، واستولى ابن بويه على أرّجان في ذي الحجّة؛ ولّما سار عن أصبهان دخلها وشمكير وعسكر أخيه مرداويج وملكوها، فلّما سمع القاهر أرسل إلى مرداويج قبل خلعه ليمنع أخاه عن أصبهان ويسلّمها إلى محمّد بن ياقوت، ففعل ذلك ووليها محمّد.
وأمّا ابن بويه فإنّه لّما ملك أرّجان استخرج منها أموالاً فقوي بها، ووردت عليه كتب أبي طالب زيد بن عليّ النوبندجانيّ يستدعيه ويشير عليه بالمسير إلى شِيراز، ويهوّن عليه أمر ياقوت وأصحابه، ويعرّفه تهوره، واشتغاله بجباية الأموال، وكثرة مؤونته ومؤونة أصحابه، وثقل وطأتهم على الناس، مع فشلهم وجُبنهم، فخاف ابن بويه أن يقصد ياقوتاً مع كثرة عساكره وأمواله، ويحصل بين ياقوت وولده، فلم يقبل مشورته، ولم يبرح من مكانه، فعاد أبو طالب وكتب إليه يشجّعه، ويعلمه أنّ مرداويج قد كتب إلى ياقوت يطلب مصالحته، فإنّ تمّ ذلك اجتمعا على محاربته، ولم يكن له بهما طاقة، ويقول له إنّ الرأي لمن كان في مثل حاله أن يعاجل مَن بين يديه، ولا ينتظر بهم الاجتماع والكثرة وأن يحدقوا به من كلّ جانب، فإنّه إذا هزم مَن بين يديه خافه الباقون ولم يقدموا عليه.
ولم يزل أبو طالب يراسله إلى أن سار نحو النُّوبَندجان في ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وقد سبقه إليهما مقدّمه ياقوت في نحو ألفَيّ فارس من شجعان أصحابه، فلّما وافاهم ابن بويه لم يثبتوا له لّما لقيهم، وانهزموا إلى كرَكان، وجاءهم ياقوت في جميع أصحابه إلى هذا الموضع، وتقدّم أبو طالب إلى وكلائه بالنُّوبندجان بخدمة ابن بويه، والقيام بما يحتاج إليه، وتنحى هو عن البلد إلى بعض القرى، حتّى لا يعتقد فيه المواطأة له، فكان مبلغ ما خسر عليه في أربعين يوماً مقدار مائتَيْ ألف دينار.
وأنفذ عماد الدولة أخاه ركن الدولة الحسن إلى كازرون وغيرها من أعمال فارس، فاستخرج منها أموالاً جليلة، فأنفذ ياقوت عسكراً إلى كازرون، فواقعهم ركن الدولة، فهزمهم وهو في نفر يسير، وعاد غانماً سالماً إلى أخيه.
ثمّ أنّ عماد الدولة انتهى إليه مراسلة مرداويج وأخيه وشمكير إلى ياقوت ومراسلته إليهما، فخاف اجتماعهم؛ فاسر من النّوبندجان إلى إصْطَخْر ثم إلى البيضاء وياقوت يتبعه، وانتهى إلى قنطرة على طريق كَرمان، فسبقه ياقوت إليها ومنعه من عبورها، واضطر إلى الحرب، وذلك في آخر سنة إحدى وعشرين، ودخلت سنة اثنتين وعشرين.

.ذكر عدّة حوادث:

في هذه السنة اجتمعت بنو ثعلبة إلى بني أسد القاصدين إلى ارض الموصل ومن معهم من طيّ، فصاروا يداً واحدة على بني مالك ومَن معهم من تغلب، وقرب بعضهم من بعض للحرب، فركب ناصر الدولة الحسن بن عبدالله بن حَمدان في أهله ورجاله، ومعه أبو الأغرّ بن سعيد بن حَمدان للصلح بينهم، فتكلّم أبو الأغرّ، فطعنه رجل من حزب بني ثعلبة فقتله، فحمل عليهم ناصر الدولة ومن معه، فانهزموا وقُتل منهم، ومُلكت بيوتهم، وأُخذ حريمهم وأموالهم ونجوا على ظهور خيولهم، وتبعهم ناصر الدولة إلى الحديثة، فلمّا وصلوا إليها لقيهم يأنس غلام مؤنس، وقد وليَ الموصل، وهو مُصعد إليها، فانضمّ إليه بنو ثعلبة وبنو أسد وعادوا إلى ديار ربيعة.
وفيها ورد الخبر إلى بغداد بوفاة تكين الخاصّة بمصر، وكان أميراً عليها، فوليَ مكانه ابنه محمد، وأرسل له القاهر بالله الخِلع، شارد الجند بمصر، فقاتلهم محمّد وظفر بهم.
وفيها أمر عليٌّ بن بليق، قبل قبضه، وكاتبه الحسن بن هارون بلعن معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد على المنابر ببغداد، فاضطربت العامّة، فأراد عليُّ بن بليق أن يقبض على البربهاريّ رئيس الحنابلة، وكان يثير الفتن هو وأصحابه، فعلم بذلك فهرب، فأُخذ جماعة من أعيان أصحابه وحُبسوا وجُعلوا في زورق وأحدروا إلى عُمان.
وفيها أمر القاهر بتحريم الخمر والغناء وسائر الأنبذة، ونفى بعض مَن كان يُعرف بذلك إلى البصرة والكوفة؛ وأمّا الجواري المغنّيات فأمر ببيعهنّ على أنهنّ سواذج لا يعرفن الغناء، ثم وضع من يشتري له كلّ حاذقة في صنعه الغناء، فاشترى منهنّ ما أراد بأرخص الأثمان، وكان القاهر مشتهراً بالغناء والسّماع، فجعل ذلك طريقاً إلى تحصيل غرضه رخيصاً، نعوذ بالله من هذه الأخلاق التي لا يرضاها عامّة الناس.
وفيها توفّي أبو بكر محمّد بن الحسن بن دُريد اللغويُّ في شعبان، وأبو هاشم بن أبي عليّ الجُبّائيُّ المتكلّم المعتزليُّ في يوم واحد، ودْفنا بمقابر الخيزران.
وفيها توفّي محمّد بن يوسف بن مطر الفربريُّ، وكان مولده سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وهو الذي روي صحيح البخاريّ عنه، وكان قد سمعه عشرات ألوف من البخاري فلم ينتشر إلاّ عنه، وهو منسوب إلى فربر بالفاء والرّاءَين المهملتين وبينهما باء معجمة موحدة وهي من قرى بخارى. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة:

.ذكر استيلاء ابن بويه على شِيراز:

في هذه السنة ظفر عماد الدولة بن بويه بياقوت، وملك شيراز، وقد ذكرنا مسير عماد الدولة بن بويه إلى القنطرة، وسبق ياقوت إليها، فلّما وصلها ابن بويه وصدّه ياقوت عن عبورها اضطّر إلى محاربته، فتحاربا في جمادى الآخرة، وأحضر عليُّ بن بويه أصحابه، ووعدهم أنّه يترجّل معهم عند الحرب ويقاتل كأحدهم، ومنّاهم ووعدهم الإحسان.
وكان من سعادته أنّ جماعة من أصحابه استأمنوا إلى ياقوت، فحين رآهم ياقوت أمر بضرب رقابهم، فأيقن مَن مع ابن بويه أنّهم لا أمان لهم عنده، فقاتلوا قتال مستقتل.
ثم إنّ ياقوتاً قدّم أمام أصحابه رجّالة كثيرة يقاتلون بقوارير النفط، فانقلبت الريح في وجوههم، واشتدّت، فلمّا ألقوا النار عادت النار عليهم، فعلقت بوجوههم وثيابهم، فاختلطوا وأكبّ عليهم أصحاب ابن بويه، فقتلوا أكثر الرجّالة، وخالطوا الفرسان فانهزموا، فكانت الدائرة على ياقوت وأصحابه.
فلمّا انهزم صعد على نشَز مرتفع، ونادى في أصحابه الرجعة، فاجتمع إليه نحو أربعة آلاف فارس، فقال لهم: اثبتوا فإنّ الديلم يشتغلون بالنهب، ويتفرّقون، فنأخذهم، فثبتوا معه، فلمّا رأى ابن بويه ثباتهم نهى أصحابه عن النهب، وقال: إنّ عدوّكم يرصدكم لتشتغلوا بالنهب، فيعطف عليكم ويكون هلاككم، فاتركوا هذا، وافرغوا من المنهزمين ثم عودوا إليه؛ ففعلوا ذلك، فلمّا رأى ياقوت أنّهم على قصده ولّى منهزماً، واتّبعه أصحاب ابن بويه يقتلون ويأسرون ويغنمون الخيل والسلاح.
وكان معزُّ الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه في ذلك اليوم من أحسن الناس أثراً، وكان صبيّاً لم تنبت لحيته، وكان عمره تسع عشرة سنة، ثم رجعوا إلى السواد، فغنموا ووجدوا في سواده برانس لبود عليها أذناب الثعالب، ووجدوا قيوداً وأغلالاً، فسألوا عنها، فقال أصحاب ياقوت: إنّ هذه أُعدّت لكم لتُجعل عليكم، ويطاف بكم في البلاد؛ فأشار أصحاب ابن بويه أن يفعل بهم مثل ذلك، فامتنع وقال: إنّه بغيٌ، ولؤم ظفر، ولقد لقي ياقوت بغيه.
ثم أحسن إلى الأسارى وأطلقهم وقال: هذه نعمة والشكر عليها واجب يقتضي المزيد؛ وخيّر الأسارى بين المقام عنده واللحوق بياقوت، فاختارو المقام عنده فخلع عليهم وأحسن إليهم.
وسار من موضع الوقعة حتّى نزل بشيراز، ونادى في الناس بالأمان، وبثّ العدل، وأقام لهم شحنة يمنع من ظلمهم، واستولى على تلك البلاد، وطلب الجند أرزاقهم فلم يكن عنده ما يعطيهم، فكاد ينحلّ أمره، فقعد في غرفة في دار الإمارة بشيراز يفكر في أمره، فرأي حيّة خرجت من موضع في سقف تلك الغرفة ودخلت في ثقب هناك، فخاف أن تسقط عليه، فدعا الفرّاشين، ففتحوا الموضع، فرأوا وراءَه باباً فدخلوه إلى غرفة أخرى، وفيها عشرة صناديق مملوءة مالاً ومصوغاً، وكان فيها ما قيمته خمس مائة ألف دينار، فأنفقها، وثبت ملكه بعد أن كان قد أشرف على الزوال.
وحُكي أنّه أراد أن يفصّل ثياباً، فدلّوه على خياط كان لياقوت، فأحضره، فحضر خائفاً، وكان أصمّ، فقال له عماد الدولة: لا تخف، فإنّما أحضرناك لتفصّل ثياباً؛ فلم يعلم ما قال، فابتدأ وحلف بالطلاق والبراءة من دين الإسلام أنّ الصناديق التي عنده لياقوت ما فتحها، فتعجّب الأمير من هذا الاتّفاق، فأمره بأحضارها، فأحضر ثمانية صناديق فيما مال وثياب قيمته ثلاثمائة ألف دينار، ثم ظهر له من ودائع ياقوت وذخائر يعقوب وعمروا ابنَي الليث جملةٌ كثيرة، فامتلأت خزائنه وثبت ملكه.
فلمّا تمكّن من شِيراز وفارس كتب إلى الراضي بالله، وكانت قد أفضت إليه الخلافة، على ما نذكره، وإلى وزيره أبي عليّ بن مقلة يعرّفهما أنّه على الطاعة ويطلب منه أن يقاطع على ما بيده من البلاد، وبذلك ألف ألف درهم، فأُجيب إلى ذلك، فأنفذوا له الخِلع، وشرطوا على الرسول أن لا يسلّم إليه الخِلع إلاّ بعد قبض المال.
فلمّا وصل الرسول خرج عماد الدولة إلى لقائه، وطلب منه الخلع واللواء، فذكر له الشرط، فأخذهما منه قهراً، ولبس الخلع، ونشر اللواء بين يديه، ودخل البلد، وغالط الرسول بالمال، فمات الرسول عنده سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وعظم شأنه، وقصده الرجال من الأطراف.
ولّما سمع مرداويج بما ناله من ابن بويه قام لذلك وقعد وسار إلى أصبهان للتدبير عليه، وكان بها أخوه وشمكير لأنّه لّما خلع القاهر، وتأخّر محمّد بن ياقوت عنها، عاد إليها وشمكير بعد أن بقيت تسعة عشر يوماً خالية من أمير، فلمّا وصلها مرداويج ردّ أخاه وشمكير إلى الريّ.

.ذكر استيلاء نصر بن أحمد على كَرْمان:

في هذه السنة خرج أبو عليّ محمّد بن إلياس من ناحية كَرْمان إلى بلاد فارس، وبلغ إصطَخر، فأظهر لياقوت أنّه يريد أن يستأمن إليه حيلةً ومكراً، فعلم ياقوت مكره، فعاد إلى كَرمان، فسيّر إليه السعيدُ نصر بن أحمد، صاحب خُراسان، ما كانَ بن كالي في جيش كثيف، فقاتله، فانهزم ابن إلياس، واستولى ما كان على كَرمان، نيابةً عن صاحب خراسان.
وكان محمّد بن إلياس هذا من أصحاب نصر بن أحمد، فغضب عليه وحبسه، ثم شفع فيه محمّد بن عبيدالله البلغميُّ، فأخرجه، وسيّره مع محمّد ابن المظفَّر إلى جرجان، فلمّا خرج يحى بن أحمد وإخوته ببخارى، على ما ذكرناه، سار محمّد بن إلياس إليه فصار معه، فلمّا أدبر أمْره سار محمّد من نَيسابور إلى كَرمان فاستولى عليها إلى هذه الغاية، فأزاله ما كان عنها، فسار إلى الدِّينَوَر، وأقام مكان بكَرمان، فلمّا عاد عنها، على ما نذكره، رجع إليها محمّد بن إلياس.

.ذكر خلع القاهر بالله:

وفيها خُلع القاهر بالله في جُمادى الأولى.
وكان سبب ذلك أنّ أبا عليّ بن مقلة كان مستتراً من القاهر، والقاهر يتطلّبه، وكذلك الحسن بن هارون، فكانا يراسلان قوّاد الساجيّة، والحجريّة، ويخوّفانهم من شرّه، ويذكران لهم غدره ونكثه مرّة بعد أخرى: كقتل مؤنس، وبُليق، وابنه عليّ بعد الأيمان لهم، وكقبضه على طريف السُّبكريّ بعد اليمين له، مع نصح طريف له، إلى غير ذلك.
وكان ابن مقلة يجتمع بالقوّاد ليلاً، تارة في زيّ أعمى، وتارة في زيّ مُكَدٍّ، وتارة في زيّ إمرأة ويغريهم به.
ثمّ إنّه أعطى منجّماً كان لسيما مائتَيْ دينار، وأعطاه الحسن مائة دينار، وكان يذكر لسيما أن طالعه يقتضي أن ينكبه القاهر ويقتله، وأعطى ابن مقلة أيضاً لمعبّر كان لسيما يعبّر له المنَامات، فكان يحذره أيضاً من القاهر، ويعبّر له على ما يريد، فازداد نفوراً من القاهر.
ثم إنّ القاهر شرع في عمر مطامير في الدار، فقيل لسيما ولجماعة قوّاد الساجيّة والحجريّة: إنّما علمها لأجلكم؛ فازداد نفوراً، ونقل إلى سيما أنّ القاهر يريد قتله، فجمع الساجيّة، وكان هو رئيسهم المقدّم عليهم، وأعطاهم السلاح، وأنفذوا إلى الحجريّة: إنْ كنتم موافقين لنا فجيئوا إلينا حتّى نحلف بعضنا لبعض، وتكون كلمتنا واحدة، فاجتمعوا جميعهم وتحالفوا على اجتماع الكلمة وقَتْل من خالف منهم.
فاتّصل ذلك بالقاهر ووزيره الحُصيبيّ، فأرسل إليهم الوزير: ما الذي حملكم على هذا؟ فقالوا: قد صحّ عندنا أنّ القاهر يريد القبض على سيما، وقد عمل مطامير ليحبس فيها قوّادنا ورؤساءنا. فلمّا كان يوم الأربعاء لستّ خلون من جمادى الأولى اجتمع الساجيّة والحجريّة عند سيما، وتحالفوا على الاجتماع على القبض على القاهر، فقال لهم سيما: قوموا بنا الساعة حتى نمضي هذا العزم، فإنّه إن تأخّر علم به، واحترز وأهلكَنا.
وبلغ ذلك الوزير، فأرسل الحاجبَ سلامة وعيسى الطبيب ليعلماه بذلك، فواجداه نائماً قد شرب أكثر ليلته، فلم يقدرا على إعلامه بذلك.
وزحف الحجريّة والساجيّة إلى الدار، ووكّل سيما بأبوابها مَن يحفظها، وبقي هو على باب العامّة، وهجموا إلى الدار من سائر الأبواب، فلمّا سمع القاهر الأصوات والجَلَبة استيقظ مخموراً، وطلب باباً يهرب منه، فقيل له إن الأبواب جميعها مشحونة بالرجال، فهرب إلى سطح حمّام، فلمّا دخل القوم لم يجدوه، فأخذوا الخدم وسألوهم عنه، فدلّهم عليه خادم صغير، فقصدوه، فرأوه وبيده السيف، فاجتهدوا به فلم ينزل لهم، فألانوا له القول، وقالوا: نحن عبيدك، وإنّما نريد أن نأخذ عليك العهود؛ فلم يقبل منهم وقال: مَن صعد إليّ قتلتُه! فأخذ بعضهم سهماً وقال: إن نزلت، وإلاّ وضعتُه في نحرك! فنزل حينئذ إليهم، فأخذوه وساروا به إلى الموضع الذي فيه طريف السبكريُّ، ففتحوه وأخرجوه منه وحبسوا القاهر مكانه، ثمّ سملوه، وهرب وزيره الخصيبيُّ وسلامة حاجبه.
وقيل في سبب خلعه وقيام الساجيّة والحجريّة غير ما تقدّم، وهو أنّ القاهر لّما تمكّن من الخلافة أقبل ينقص الساجيّة والحجريّة على ممرّ الأيّام، ولا يقضي لأكابرهم حاجة، ويُلزمهم النوبة في داره، ويؤخّر أعطياتهم، ويغلظ لمن يخاطبه منهم في أمر، ويحرمه، فأقبل بعضهم ينذر بعضاً، ويتشاكون بينهم، ثم إنّه كان يقول لسلامة حاجبه: يا سلامة! أنت بين يديّ كنزل مال يمشي، فأيّ شيء يبين في مالك لو أعطَيتَني ألف ألف دينار؟ فيحمل ذلك منه على الهزل.
وكان وزيره الخصيبيُّ أيضاً خائفاً لما يرى منه، ثم أنّه حفر في الدار نحو خمسين مطمورة تحت الأرض، وأحكم أبوابها، فكان يقال: إنّه عملها لمقدّمي الساجيّة والحجريّة، فازداد نفورهم منه وخوفهم؛ ثم إنّ جماعة من القرامطة أُخذوا بفارس وأُرسلوا إلى بغداد، كما تقدّم، فحُبسوا في تلك المطامير، ثم تقدّم سرّاً بفتح الأبواب عليهم، والإحسان إليهم، وعزم على أن يقوى بهم على القبض على مقدّمي الحجريّة والساجيّة، وبمن معه من غلمانه.
وأنكر الحجريّة والساجيّة حال القرامطة، وكونهم معه في داره محسناً إليهم، وقالوا لوزيره الخصيبيّ، وحاجبه سلامة، في ذلك، فقالا له، فأخرجهم من الدار، فسلّمهم إلى محمّد بن ياقوت، وهو على شُرطة بغداد، فأنزلهم في دار، وأحسن إليهم، وكان يدخل إليهم من يريد، فعظم استيحاشهم.
ثمّ صار يذمّهم في مجلسه، ويُظهر كراهتهم، حتّى تبيّنوا ذلك في وجهه وحركاته معهم، فأظهروا أنّ لبعض قوّادهم عرساً، فاجتمعوا بحجّته، وقرّروا بينهم ما أرادوا، وافترقوا، وأرسلوا إلى سابور خادم والدة لمقتدر، فقالوا له: قد علمتَ ما فعله بمولاتك، وقد ركبتَ في موافقته كلّ عظيم، فإنّ وافقتنا على ما نحن عليه، وتقدّمتَ إلى الخدم بحفظه، فعفا الله عمّا سلف منك، وإلاّ فنحن نبدأ بك؛ فأعلمهم ما عنده من الخوف والكراهة للقاهر، وأنّه موافقهم، وكان ابن مقلة مع هذا يصنع عليه ويسعى فيه إلى أن خُلع، كما ذكرنا، وكانت خلافته سنة واحدة وستّة أشهر وثمانية أيّام.

.ذكر خلافة الراضي بالله:

هو أبو العبّاس أحمد بن المقتدر بالله، ولّما قُبض القاهر سألوا الخدم عن المكان الذي فيه أبو العبّاس بن المقتدر، فدلّوهم عليه، وكان هو ووالدته محبوسين، فقصدوه، وفتحوا عليه ودخلوا فسلّموا عليه بالخلافة، وأخرجوه وأجلسوه على سرير القاهر يوم الأربعاء لستّ خلون من جمادى الأولى، ولقبوه بالراضي بالله، وبايعه القوّاد والناس، وأمر بإحضار عليّ بن عيسى وأخيه عبد الرحمن، وصدر عن رأيهما فيما يفعله، واستشارهما وأراد عليَّ بن عيسى على الوزارة، فامتنع لكبره، وعجزه، وضعفه، وأشار بابن مقلة.
ثم إنّ سيما قال للراضي: إنّ الوقت لا يحتمل أخلاق عليّ، وابن مقلة أليق بالوقت؛ فكتب له أماناً وأحضره واستوزره، فلمّا وزر أحسن إلى كلّ مَن أساء إليه، وأحسن سيرته، وقال: عاهدت الله عند استتاري بذلك؛ فوفى به، وأحضر الشهود والقضاة وأرسلهم إلى القاهر ليشهدوا عليه بالخلع، فلم يفعل، فسُمل، من ليلته، فبقي أعمى لا يبصر.
وأرسل ابن مقلة إلى الخصيبيّ وعيسى المتطبب بالأمان فظهرا وأحسن إليهما واستعمل الخصيبيَّ وولاّه؛ واستعمل الراضي بالله على الشُّرطة بدراً الخَرشَنيَّ، واستعمل ابنُ مقلة أبا الفضل بن جعفر بن الفرات، في جمادى الأولى، نائباً عنه على سائر العمّال بالموصل، وقَرْدَى، وبازَبْدي، وماردين، وطور عَبدين، وديار الجزيرة، وديار بكر، وطريق الفرات، والثغور الجزريّة والشاميّة، وأجناد الشام، وديار مصر، يصرف من يرى، ويستعمل مَن يرى في الخراج، والمعاون، والنفقات، والبريد وغير ذلك.
وأرسل إلى محمّد بن رائق يستدعيه ليولّيه الحجبة، وكان قد استولى على الأهواز وأعمالها، ودفع عنها ابن ياقوت، ولم يبق بيد ابن ياقوت من تلك الولاية إلاّ السُّوس، وجُندَيسابور، وهو يريد المسير إلى أصبهان أميراً عليها، على ما ذكرناه، وكان ذلك آخر أيّام القاهر، فلمّا وليَ الراضي، واستحضره، سار إلى واسط، وأرسل محمّد بن ياقوت يخطب الحجبة، فأُجيب إليها فسار في أثر ابن رائق؛ وبلغ ابن رائق الخبر، فلم يقف، وسار من واسط مصعداً إلى بغداد يسابق ابن ياقوت، فلمّا وصل إلى المدائن لقيه توقيع الراضي يأمره بترك دخول بغداد، وتقليده الحرب، والمعاون بواسط، مضافاً إلى ما بيده من البصرة وغيرها، فعاد منحدراً في دجلة، ولقيه ابن ياقوت مصعداً فيها أيضاً، فسلّم بعضهم على بعض، وأصعد ابن ياقوت إلى بغداد فتولّى الحجبة على ما نذكره.

.ذكر وفاة المهديّ صاحب إفريقية وولاية ولده القائم:

في هذه السنة، في شهر ربيع الأوّل، توفّي المهديُّ أبو محمّد عبيدالله العلويُّ بالمهديّة، واخفى ولده أبو القاسم موته سنة لتدبير كان له، وكان يخاف أن يختلف الناس عليه إذا علموا بموته، وكان عمر المهديّ لّما توفّي ثلاثاً وستّين سنة، وكانت ولايته منذ دخل رقّاده ودُعي له بالإمامة إلى أن توفّي أربعاً وعشرين سنة وشهراً وعشرين يوماً.
ولّما توفّي ملك بعده ابنه أبو القاسم محمّد، وكان أبوه قد عهد إليه، ولّما أظهر وفاة والده كان قد تمكّن وفرغ من جميع ما أراده، واتَّبع سُنّة أبيه، وثار عليه جماعة، فتمكّن منهم؛ وكان من أشدّهم رجل يقال له ابن طالوت القرشيُّ، في ناحية طرابلس، ويزعم أنّه ولد المهديّ، فقاموا معه، وزحف إلى مدينة طرابلس، فقاتله أهلها، ثم تبينّ للبربر كذبه، فقتلوه وحملوا رأسه إلى القائم.
وجهّز القائم أيضاً جيشاً كثيفاً مع ميسور الفتى إلى المغرب، فانتهى إلى فاس، وإلى تَكرور، وهزم خارجيّاً هناك، وأخذ ولده أسيراً، وسيّر أيضاً جيشاً في البحر وقدّم عليهم رجلاً اسمه يعقوب بن إسحاق إلى بلد الروم، فسبى، وغنم في بلد جَنَوة؛ وسيّر جيشاً آخر مع خادمه زيدان، وبالغ في النفقة عليهم وتجهيزهم، إلى مصر، فدخلوا الإسكندريّة، فأخرج إليهم محمّد الإخشيد عسكراً كثيفاً، فقاتلهم، وهزموا المغاربة، وقتلوا فيهم، وأسروا، وعاد المغاربة مفلولين.

.ذكر استيلاء مرداويج على الأهواز:

لما بلغ مَرداويجَ استيلاء عليّ بن بويه على فارس اشتدّ ذلك عليه، فسار إلى أصبهان للتدبير على ابن بويه، فرأى أن ينفذ عسكراً إلى الأهواز ليستولي عليها، ويسدّ الطريق على عماد الدولة بن بويه إذا قصده، فلا يبقى له طريق إلى الخليفة، ويقصده هو من ناحية أصبهان، ويقصده عسكره من ناحية الأهواز، فلا يثبت لهم.
فسارت عساكر مرداويج في شهر رمضان، حتّى بلغت إيذَجَ، فخاف ياقوت أن يحصل بينهم وبين ابن بويه، فسار إلى الأهواز ومعه ابنه المظفَّر، وكتب إلى الراضي ليقلّده أعمال الأهواز، فقلّده ذلك، وصار أبو عبدالله ابن البريديّ كاتبه مضافاً إلى ما بيده من أعمال الخراج بالأهواز، وصار أخوه أبو الحسين يخالف ياقوتاً ببغداد.
ثم استولى عسكر مَرداويج على رامهرمز، أوّل شوّال من هذه السنة، وساروا نحو الأهواز، فوقف لهم ياقوت على قنطرة أرْبَقَ، فلم يمكنهم من العبور لشدة جرية الماء، فأقاموا بإزائه أربعين يوماً، ثم رحلوا فعبروا على الأطواف نهر المسرُقان، فبلغ الخبر إلى ياقوت، وقد أتاه مدد من بغداد قبل ذلك بيومَيْن، فسار بهم إلى قرية الرِّيخ، وسار منها إلى واسط، وبها حينئذ محمّد بن رائع، فأخلى له غربيَّ واسط، فنزل فيه ياقوت.
ولّما بلغ عمادَ الدولة استيلاءُ مرداويج على الأهواز كاتب نائب مرداويج يستميله، ويطلب منه أن يتوسّط الحال بينه وبين مرداويج، ففعل ذلك، وسعى فيه، فأجابه مرداويج إلى ذلك على أن يطيعه ويخطب له، فاستقرّ الحال بينهما، وأهدى له ابن بويه هدية جليلة، وأنفذ أخاه ركن الدولة رهينة، وخطب لمرداويج في بلاده، فرضي مرداويج منه، واتّفق أنّه قُتل على ما نذكره، فقوي أمر ابن بويه.